حين يهمس الليل / الكاتبة فائزة جوادي /تونس

حين يهمس الليل ...

تنسدل الستائر لينخفض الضوء، نور خفي ينبعث من الشموع، وردة بيضاء و أخرى حمراء تعانقا في مزهرية تتوسط الطاولة، أعطرها أوراقي بعصارة روحي ثم أملأها محبرتي بحبر من مآقي عيوني، فنجان قهوة من بن أفكاري يغلي من هيامها.

يهرع قلمي الى أناملي كلما غازلته تلك الطقوس، يتضور شوقا ليفكّ لجامه و ينطلق في مسارب الأوراق، حان وقت ولوج المحراب المقدس، تنساب هيبة وقورة تعم ظلمة الليل و مغناطيس يجذب السحر إليه.

أزرع تلك الكلمة الرقيقة و أعيدها على كل مساحة الورقة، صارت خلفيتها عامرة بها، أدفع الحرف عن الحرف و أكتبها، بين الحرف و النقطة أكتبها، بين السطر و السطر أكتبها، أملأ كل الفراغات بها بين الكلمة و الكلمة، أقولها في كل الأوقات و قبل كل مواقيتي و حتى في صمتي أرددها.

أسترسل في الكتابة و صورة محاياك تنتقل على كل جدران غرفتي حتى بعد ما جددت لها الطلاء و غيرت الستائر، لبست النظارة لعل بصري لم يعد يسعفني لكن الصورة صارت أكبر و اتسعت ابتسامتك على عرض الجدار المقابل لسريري، مرسومة على وسادتي، على كل فساتيني و حتى على لحاف السرير.

لا يمكن أن أكتب دون استحضار طيفك الملهم، فبغيرك حروفي باهتة لا لون و لا طعم لها، أستلّ من شرايين قلبي أحاسيسا أصنع منها حروفي، تخرج معتقة بالمسك لأنك هناك، أرمي دلوي في بئر روحي لأجلب كلمات جميلة لأنك أيضا هناك، إن جرحني قلمي و إن نزلت قطرة تتحول إلى وردة حمراء لأنك تسري في دمائي.

و حين تستنزف الأوراق كل بوحي تسحب نفسها برفق متسللة إلى الطاولة، يسري القلم مني في صمت رهيب حتى لا يحدث ضجة و ينتهي إلى المحبرة، يرسم على جبينها قبلة نصر و يهتف لها لقد نامت بعدما سلّمتنا كل ما في جرابها، الضوء غاب هو الآخر مع احتراق خيط الشمعة و سكون حممها، تسقط يدي مسترخية معانقة أختها و بينهما وسادتي.

لا تنتهي الرحلة هناك، أجدك جالسا على بوابة حلمي، ترميني رموشك بسهام لحظها، تضطرب أنفاسي فتششابك الشهقة مع الزفير في أعلى حلقي، عيونك تجعلني أرتجف خجلا و لا أغادر مكاني، صوتك أغنية أشغّلها كل الليل لتعطر أذاني في صحوها و منامها.

خيالك يقف أمامي و بهرة الضوء يحيطه، تنبهر عيوني فلا أقدر أن أمتعهما بوجهك، تلك الضحكة تنطلق نحوي و تعاود فرها كأنها تلاعبني، تستفز خطواتي لأتبعها و تتوارى بعيدا و راء البحار التي تقف بيننا، حديثك معلّق في سقف ذاكرتيي يتدلى كعراجين التمر، صافي كاللبن و نقي كمياه العيون السارية بين الجبال.

يمضي حلمي في امتداده، باخرة تتلألأ أضواء فوانيسها في ليل الدجى، أمواج تترنح تجرّها أشواقي، طفى حنيني كزبد البحر دفعته دوامة الوجد، هدير البحر يناجيك على وتر الريح، صوت خفي يناديني من فوهة القوقعة، همسات متتالية بإسمي مرفوقة بأحلى كلمة، تتبتهج خيوط وجهي، تزهر عيوني فرحا، أتململ فأرى الشمس ترمي عنها لحاف الليل، تمشّط خصائلها المذهبة لتطلق سراحها في سماء فتحت نوافذها للنسيم.

أمد يدي إلى هاتفي الذي يرسل صدى مسترسلاً ملحاً، تطل علي صورتك الفارهة، أفتتح رحلتي بدعائي و شكري لخالقي، منحني أملا جديدا لأعيش على قيد حلمي اليتيم، أنتظرك... حتى تنتهي الروح لمستقرها الأخير و أظل أتلو تلك الكلمة حتى يبلى صوتي، تَرثى حواسي و تهمس بها عظامي في رفاتي.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نواعير الشّوق / روضة بوسليمي / تونس

عمقك وطن / الكاتبة امل الخليفة