كرسي المحطة.. قصة قصيرة / الكاتبة فائزة جوادي / تونس

ﻛﺮﺳﻲ ﺍﻟﻤﺤﻄﺔ

( قصة قصيرة )

ﻳﻘﺒﻊ ﻣﻨﺬ ﺃﻥ ﺷﺬﺑﻮﻩ ﻣﻦ اﻟﺸﺠﺮﺓ ﺍﻟﻮﺍﺭﻓﺔ، ﻛﻐﺼﻦ ﺷﺬّ ﻋﻦ ﺟﻤﺎﻟﻴﺔ ﺍﻟﻤﻨﻈﺮ ﻭ ﺣﺎﺩ ﻋﻦ دﺍﺋﺮﻳﺔ ﺍﻟﺸﻜﻞ ﺍﻟﻤﺮﺳﻮﻡ ﻟﻪ، ﺳﺎﺭ ﺧﺎﺭﺝ ﻣﻨﻈﻮﻣﺔ ﺣﺪﺩﺗﻬﺎ ﻗﻮﺍﻧﻴﻦ التشذيب، ﻓﺤﺎﻥ ﺍﺟﺘﺜﺎﺛﻪ ﻣﻦ اﻟﺠﺬﻉ ﻭ ﻃﺮﺩﻩ ﺣﺘﻰ ﻣﻦ اﻟﻔﺮﻉ ﺍﻟﺼﻐﻴﺮ.

ﺯﺍﺩﺕ اﻟﻤﺴﺎﻣﻴﺮ ﺍﻟﺘﻲ ﺯﺭﻋﻮﻫﺎ ﻓﻴﻪ أﻟﻤﺎً عمق الجرح في نفسه، سكن في شريان القلب لأمد غير محدد و لعله يبقى معه الى يوم الوداع الأخير ثم وثقوه بقضبان الحديد حتى يغلقوا عليه حلم العودة.

حدث كل هذا ﻭ ﻣﺎء ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﻣﺎﺯﺍﻝ ﻳﺠﻮﺩ بآﺧﺮ ﻗﻄﺮﺍﺗﻪ في روحه العطشى، فلم يسمع أﻧﻴﻨﻪ ﺑﻨﻲ ﺟﻨﺴﻪ، لم يدعموا حتى بقائه لعله الخوف من المنشار أو اللامبالاة التي اعتادوها في مثل هذه المواقف.

ﺗﺪﻋﻢ إﺣﺴﺎﺱ ﺍﻟﻐﺮﺑﺔ ﻟدﻴﻪ ﻓﻲ ﻟﻔﻈﻪ ﺧﺎﺭﺝ ﺍﻟﻐﺎب، ﻣﻮﻃﻨه الأم ومخبأ أﺟﻤﻞ ﺍﻟﺬﻛﺮﻳﺎﺕ، ﺗﻴﺒﺴﺖ أﻭﺻﺎﻟﻪ ﺑﻌﺪ ﺃﻥ ﻛﺎﻥ ﻳﺎﻧﻌﺎ ﺗﺸﻊ ﻣﻨﻪ ﺍﻟﺨﻀﺮﺓ ﻛﺄﻧﻪ اﻟﺠﻨﺎﻥ ﻭﻣﺤﺎﻃﺎ ﺑالحنان ﻭﺩﻑء ﺍﻟﺸﻌﻮﺭ.

ﺗﻘﺒﻞ ﻭﺿﻌﻪ ﺍﻟﺬﻱ ﻟﻢ ﻳﺨﺘﺮﻩ ﺑﺤﺴﺮﺓ ﺳﻜﻨﺖ ﻗﻠﺒﻪ ﻭ ﺭﺳﻤﺖ فيه ﻧﻘﻄﺔ ﺳﻮﺩﺍء امتدت الى قعر العمق، ﻟﻢ ﺗﻘﺪﺭ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﻋﻠﻰ ﻣﺴﺤﻬﺎ من خياله، ﻓﺼﺎﺭﺕ ﺗﻨﺤﺮ ﻇﻬﺮﻩ ﺑﻌﺪ ﺃﻥ كاﻧﺖ ﺗﻐﺬﻳﻪ ﻣﻦ ﺭﻭﺣﻬﺎ ﻓﺘﻴﻨﻊ أﻭﺭﺍﻗﻪ ﺣﺒﺎ ﻟﻠﺤﻴﺎﺓ، ﺗﺰﻫﺮ أﺧﺼﺎﻧﻪ ﻣﻦ ﻟﻮﻥ ﺍﻟﻮﺭﺩ ﺟﻤﺎﻻ ﻳﺒﻬﺮ ﺍﻟﻨﺎﻇﺮ ﺇﻟﻴﻬﺎ.

ﻭ لم تنجح ﺍﻟﺮﻳﺎﺡ ﻓﻲ ﺯﺣﺰﺣﺔ ﻋﺮﻭﻗﻪ اﻟﻤﻤﺘﺪﺓ تحت صلابة الإسمنت ﺍﻟﻤﺴﻠﺢ، ﺣﺘﻰ ﺍﻷﻣﻄﺎﺭ ﺍﻟﺘﻲ ﻣﻨﺤﺘﻪ ﺍﻟﻤﺎء ﻟﻢ ﺗﺮﻭﻱ ﺷﻮﻗﻪ و ﺣﻨﻴﻨﻪ ﻟﻠﺬﻛﺮﻯ ﺍﻟﻨﺎﻋﺴﺔ ﻋﻠﻰ ﺟﻔﻮﻧﻪ، ﺗﺸﻌﻞ ﻣﻦ ﺷﺮﺍﻳﻴﻨﻪ اﻟﻨﺎﺭ ﺍﻟﻤﺤﺮﻗﺔ ﻟﻘﻠﺒﻪ ﺍﻟﺬﻱ ﺗﻤﻜﻨﺖ ﻣﻨﻪ ﺍﻷﻭﺟﺎﻉ ﺭﻏﻢ ﺗﺨﺸﺒﻪ.

تواردت عليه ﺍﻟﻔﺼﻮﻝ ﺑﺸﻤﺴﻬﺎ الملتهبة التي أضرمت في كيانه حروقا من الدرجة الثالثة يصعب مداواتها، ﺃﻣﻄﺎﺭﻫﺎ العاصفة بضعفه و المجدفة بأحاسيه، ﺭﻳﺎﺣﻴﻬﺎ الماردة، و الثلوج المزهمرة بأطرافه و المجمدة لإحساس كان يعيشه في الأيام الهاربة منه، كلها اجتمعت عليه فزﺍﺩته ﺗﺼﻠﺒﺎ ﻭ عمّقت ﻓﻴﻪ ﺍﻟﺸﺮﻭﺥ.

ﻇﻞ ﻣﺘﺸﺒﺜﺎً ﺑﻤﻜﺎﻧﻪ ﻳﺮﻗﺐ القطارات المارة بالمحطة و ﺍﻟﻤﺴﺮﻋﺔ ﻋﻠﻰ ﺳﻜﻚ ﺍﻟﻘﺪﺭ ﺳﺎﺧﺮﺓ ﻣﻦ ﺷﻠﻞ ﺣﺮكته الساكنة المستسلمة لما أصابها، فوﻓﺎﺋﻪ ﺍﻟﻤﺰﻋﻮﻡ ﻟﻨﻔﺲ ﺍﻟﻤﻜﺎﻥ جعله كحجرة كليومترية راسخة على جنبات الطريق مهملة لا أحد ينظر أليها إلا صدفةً.

فكلّما ﺃﺭست رحلة ﺇﻻ ﻭ ﺷﺨّﺺ ﻧﺎﻇﺮﻳﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺴﺎﻓﺮﻳﻦ ﻋﺒﺮ اﻟﺰﻣﻦ، ﻋﻠّﻪ ﻳﺤﻈﻰ ﺑﺎﺑﺘﺴﺎﻣﺔ ﻣﺴﺮﻭﻗﺔ ﻣﻦ وجوه أضناها التعب، ﺃﻭ ﻣﻮﺍﺳﺎﺓ تشد من صبره ﺍﻷﻳﻮﺑﻲ، ﻫﻤﺴﺔ ﺷﻜﺮ ﺗﺰﻳﺢ ﻋﻨﻪ ﻏﺒﺎﺭ ﺍلأﺣﺰﺍﻥ ﺍﻟﻤﺘﺮﺍﻛﻤﺔ ﻋﻠﻰ ﺭﻓﻮﻓﻪ، لعل ﻭﺭﺩﺓ تعيد له بصيص الحياة ﻭ ﺇﻥ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻫﻮ اﻟﻤﻘﺼﻮﺩ بها، ﺗﺮﻛﻬﺎ ﻋﻠﻴﻪ ﺃﺣﺪﻫﻢ ﺇﻣﺎ ﻧﺴﻴﺎﻧﺎ ﺃﻭ ﻏﻀﺒﺎ ﻣﻦ ﺣﺒﻴﺐ ﺧﺎﻥ ﺍﻟﻠﻘﺎء.

ﻛﺎﻥ ﻳﺴﺮﻕ ﺍﻟﺤﺮﻭﻑ ﻟﺸﻐﻔﻪ ﺑﻬﺎ ﻣﻦ ﺟﺮﻳﺪﺓ ﺃﻭ ﻛﺘﺎﺏ ﺃﺣﺪ اﻟﺠﺎﻟﺴﻴﻦ ﻋﻠﻴﻪ، يزرعها في بساتين قلبه المترامية على ضفاف نهره الذي جفت منابعه، ﺃﻣﺎ ﺍﻵﻥ ﻓﻴﺨﺘﻠﺴﻬﺎ ﻣﻦ ﺷﺎﺷﺔ ﻫﺎﺗﻒ ﺟﻮﺍﻝ او ﺣﺎﺳﻮب، ﻳﺠﻤﻊ ﺍﻷﺧﺒﺎﺭ ﻭ يرﻛﻨﻬﺎ ﻓﻲ ﺫﺍﻛﺮﺗﻪ ﺍﻟﻤﺘﻌﺒﺔ ﻭ اﻟﻤﻨﺴﻴﺔ ﻟﻘﻠﺔ ﻣﺮﻭﺭﻩ بها، ﻇﻠﺖ ﺭﺍﻛﺪﺓ ﻓﺄﺗﻠﻒ ﺟﺎﻧﺐ ﻛﺒﻴﺮ ﻣﻨﻬﺎ ﻟﻌﺪﻡ ﻓﺎﺋﺪتها ﻟﻬﺬﻩ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺍﻟﺠﺪﻳﺪﺓ.

حضر الكرسي الخشبي كل لحظات الوداع الباكية من لوعة الفراق، فكل مشهد يعاينه يلصقه في ألبوم صور مخيلته، يؤلف منها قصصا و روايات حزينة لا تتجاوز صندوق أسراره، و سطورا يكتبها في خفاياه.
و لحظات استقبال حارة من بعد فراق الأحبة، تعبّر عن مدى الحنين، تعوض الإنتظار عن ترقبه وصبره، وتروي الشوق العطشان من عيني حبيب أبعدته المسافات و نأت به السنوات عن حضن اللقاء.

كان شاهد عيان على كثير من قصص العشق التي سمعها عن غير قصد، تورّدت شراينه خجلاً و حياءً لكونه لم يسمع مثلها من الغصن الذي كان يغازله على طرف الشجرة المقابلة، و توجعت شرايين قلبه لفقدانه حب حياته الوحيد.

كانت هذه الحكايات تنتهي بمشادة كلامية حامية الوطيس، تراشق بسهام الإتهامات بالإهمال و الخيانة، بدموع خدشت خد صبية و جرحت قلبها المنفطر، ألم أخفاه عاشق عن العيون و داراه في دهاليز قلبه المجروح.
أودعه بعض المسافرين رسائله الملتهبة حبا،ً كتبوها على جنباته بماء الروح، و منهم من اختار رسوماً ليتركها ذكرى خالدة، قلوب اخترقتها سهام و دماء سالت قطراتها حمراء.

مرّت سنين تتلوها أخرى وهو على نفس الحال، كرسي خشبي في محطة القطار، شهد حركة القرية كلها و لم يتحرك من مكانه، الى أن بلغت المحطة عمر الانتهاء فشاخت جدرانها و اهترأت أبوابها وحتى حديد السكة ناله الصدأ.

سمع الكرسي بقرار الهدم فنشبت فيه مشاعر ممزوجة بالحزن على سنين عمره التي مرت و هو ينتظر في نفس النقطة، لم يعترف له أحد بتضحياته الجسام، لم تربت على كتفيه غير ثلوج الشتاء، و لم يتكرموا عليه حتى بطلاء يخفي شقوقه و يقيه العوامل الجوية، فنزلت من مآقيه دمعات حارقة تودّع سنينه الضائعة على عتبات الإنتظار، لعلها تعينه على تقبل الأمر.

و انتابته مشاعر غريبة تشبه الفرح لأنه نسي طعمه و انتشر في قلبه شعور جميل لم يعرف سببه لعلها الراحة الأبدية.

جاءت الجرافة و اجتث كل ما تشبث بالأرض، هوت اخشاب الكرسي من على الحديد، و انقسم الى أجزاء خشبية مما سهل على جامع الحطب حملها، استفاقت الشضايا و النار تلتهمها و هي ترى مثيلاتها من الحطب تنال نفس المصير لكنها لم تعش نفس الحياة، فاحترقت و في قلبها كلام كثير لم تبح به لغصن و سيضل مختوما بالشمع الأحمر و مخبأ في صندوق الصمت.

فائزة جوادي
من تونس

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

غريبة / الكاتبة مريم محمد المهدي /المغرب

ماذا لو / الكاتبة امل الخليفة