سري للغاية.. قصة قصيرة / الكاتبة فائزة جوادي /تونس

سري للغاية...

جلست
البحر يصفع الصخور، الشمس منكسرة شاحبة تستعد لتنزع النهار عنها، غمزت لليل ليتبادلا الأحضان تسلمه البحر بين راحتيه، ثم احمرّت خجلا لتتوارى، الأمواج تتدافع إلى مداها مستنكرة حينا و مسالمة ودودة حينا آخر على حسب ملاطفة الرياح لها، الرذاذ المتناثر أحب مشاكسة وجهها ببرودة حانية.

أول اللقاء يبدأ بفتور غامض كأنها تجمع حروفها و ترتب كلماتها حتى تسرسل في حديث قد يطول، أفكارها متكومة فوق رأسها و تثقله، يرمقها شيخ النوارس المتخلف عن الرحلة بصيحة فيها بحة من كثرة حزنه على إفتقاد الراحلين، يشكوها عجزه و يستعطف إلتفاتة منها.

مركب الصيد يترنح حائرا، شباكه متاعنقة إلى حد لا يمكن فصلها عن بعضها، نظرت إليها باحثة عن خيط يوصلها إلى موطن الجزرة، كلما اتبعت مسلكا الا توارى وراء التشابك و عقد الحبال، المجداف لا يحرك نظره عن المجداف المقابل له، يرتشافان لحظات الإنتظار، الحبال الغليظة تبدو مسبتدة استلقت على جهة كبيرة، المرساة ثبتت المركب الى قعر البحر حتى لا يرحل دون البحار.

الشاطئ مزاجه سيئ هذا المساء، رمى زواره بالرمال فهبوا فارين من شراسته، خلى إلا من عاشقة عنيدة و رياح أعجبت بشعرها فصارت تأخذه معها أينما اتجهت، كأنه أراد أن ينفرد بها ليروي لها عن بطولاته مع الأمواج، أما السحب فكانت تتسابق على السماء، الحبلى منها كانت تمشي الهوينا و آثار تعب الحمل ظهرت في شكل سواد على محياها، أما الفارغة فكانت تجوب الفضاء بفاستينها البيضاء القصيرة، بخفة أصابع راقصة بالي محترفة، فاتحة يداها إلى الأعلى و تدور دورة حول نفسها حتى تمسكها الريح من يدها و يستمران حتى تنتهي الرقصة.

نظرت إلى البحر في عينه نظرتها العاتبة، لم يلتقيا منذ أن زاره الكثير غيرها في الصيف، فلم يتسنى لها الانفراد به، لم تنطل عليه غيرتها الزائدة، فاسدل أمواجه الهادئة معتذرا، لكنه لم يراود أحدا فقلبه الكبير يسع الجميع، لا يمكنه أن يرد المحبين عن موجه دون أن يدلك لهم أكاتفهم، دون أن يسترخو بين يديه حتى ينسوا ما يؤرق أفكارهم، دون أن يغسل أوجاعهم و دون يبحروا فيه طويلا و ينسوا عامل الزمن و العالم الذي تركوه مع أول ما وطؤا الرمال.

من حبّها له تغفر له سريعاً و لأنه أوفى أصدقائها مهما زادت خطورة أسرارها، يجعلها تفرغ ما بحقائبها داخله، يواريها عنها في لحظة و يعود مبتسما ملاطفا لها.

بدأت في حديثها الشجي كمترو النقل الخفيف، تجوب مدينتها المكتظة من جهاتها الأربعة و في دقائق،مبرقة و مطولة لما يستحق وقتا حتى تقتلعه من عمقها، يستمع إليها باتبهاه حتى أنه يخنق هديره داخله و تارة يصدر صوتا هائجا ليعبر لها عن غضبه من من قام بذلك إذا ما شكته، كان يمتص كل ما تفرزه من همساتها و أناتها و يعود مادا أحضانه لها حتى يخفف عنها، يضمها و يداعبها حتى تتبلل روحها.
كانت تدس تفاصيلا لا تنتهي لذلك الموعد، آثرت أن تلخص حكايات ألف ليلة لترميها في عمقه بسرعة حتى لا تطيل على رفيقها و لا يتصدع من وطأة ما يسمع، نبرات صوتها تتعالى مع الحركة و التموج، تغيب قليلا عن النطق و تمتص ريقها ثم تبلله بشربة من قارورة جنبها، و تنطلق كالسهم ثانية، تعبت من كثرة ما ثرثرت و هو قابع يدقق في ما يمر على آذانه.

استمرت حتى التحفها الظلام و برودة عابرة لأن النار الموقدة داخلها تكفيها لرحلة الخريف و الشتاء، لكنها لا تحقق لها اكتفاء حاجتها من الدفئ، أحست بنور يظلل البحر و يعكس عليه شعاعا من السحر، لقد تسلل القمر ليزيد للجلسة وقارها و حتى يكون شاهدا على ما روته، فهو كان حاضرا يطل من على شرفة غرفتها و ساير ما كان، لكنها انتفضت بحركة كهربائية فاستدارت لساعتها حتى تسترجع وعيها بالزمن و تستفيق من ثمالتها رغم أن رغبتها في سكب مزيد من الاقداح لتحتسيها على نخب ما في أحشائها من أسرار و ما في كبدها من لوعة.

تدثرت بوشاح على كتفيها، نفضت الرمال من على أقدامها حتى تكتمل جريمتها و لا يعرف أنها كانت تلاقيه و تحت ضوء القمر، كيف لها أن تنكر فعلتها و عيناها تبرق بهجة، رمت البحر بلحظها تودعه إلى لقاء جديد، رمى لها وعودا بأن يرعاها حتى من بعيد، أنه سيزورها ليلا، يرقبها وهي نائمة و يحرسها ثم طلب من القمر أن يرافقها في طريق عودتها.

فائزة جوادي
من تونس

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نواعير الشّوق / روضة بوسليمي / تونس

عمقك وطن / الكاتبة امل الخليفة