قصة : محمد ابن الأرملة / الكاتب نزار عمر

محمد  ابن الأرملة
قصة
.. وأخيراً ..
انتهى تقديم واجب العزاء بالمرحوم .. وبدأ الحاضرين بالخروج ، تاركا خلفه ابنته "أمل" التي تحمل على كتفها سنواتها السبعة ، محمد الذي لم يمضي من عمره اﻻ عشر سنوات . وليل طويل قاس وموجع ، لحظاته كانت تمضي متثاقلة ،كأنها لحظات انتظار لسماع ما سيقوله قاض والمتهم يصرخ انه بريء ..

نظرت الى اطفالها بصمت .. لكن دمعة كسرت قيدها وقيد ندمائها ،  وقبل ان تنهار امسكت بما تيقى من قواها بعد ان شاهدت خوف اطفالها والخوف والدمع الخفي الذي يخرج بصمت ، وقفت على قدميها  ومسحت بيديها دمعها ، جمعت اوﻻدها وكانها تحضنهم  للمرة اﻻخيرة .. فقد كانت صور الضياع تمشي امام ناظريها ، فحاولت ان تتعكز على قوتها الباقية ، ولكن حديث طفلتها عندما وجهت اسئلتها البريئة ﻻنها لم تكن تفهم ما الذي حدث وماذا سيحدث ، فكل ما كانت تراه ، ان نساء الحي كانوا ياتون موشحين بالسواد وبضع كلمات كانت تسمعها لم تفهم معناها ومازال ، جعلها ترى البيت وكأنه ينهار وهي تستمع لطفلتها عندما قالت بطفولتها :
امي لقد لم يبقى أحد غيرنا في البيت ، لقد تاخر ابي ، أما كان عليه أن يأتي ليكون معنا ، حاول محمد أن يخف عن أخته لكنه فشل مع إصرار أخته أمل باسئلتها
وفي بداية الأمر ، لم تعرف ام محمد كيف ترد على طفلتها ، خاصة بعد أن اقتنعت أن ابنها قد فشل في محاولته
فخانتها كل أبجديات اللغة ، عندما بدأ شريط الذكريات يرجعها الى امسها مع زوجها ، ولحظات فرحهم مع الاوﻻد واحاديثهم عن مستقبل الاوﻻد ،  ليوقظها الغد بصور رمادية وهي تنظر اوﻻدها وأحياناً قاسية ومفزعة ، خبأت دمعتها وسجنت ما تبقى ، والطفلة تعيد السؤال وهي تنكزها على كتفها ، فتستيقظ الأم من شرودها
فتنتبه إلى ابنتها وكأنها تحدثها ، فتقول :
نعم يا صغيرتي ، ماذا كنت تقولين
لا شيء امي ، كنت أسأل لماذا تأخر أبي ، وأنا أريد أن أنام ، وأريده أن يحكي لي حكاية ليلى والذئب ،كل  مساء اﻻ تعرفينها ؟
لم تكن تعرف الأرملة ماذا تفعل ، أو ماذا تقول ، بشكل عفوي تشدها إلى حضنها ، وتخبئ وجهها عنها بعد كسرت دمعة اسرها ، فرفعت نظرها للأعلى كأنها تناشد السماء بمساعدتها
لم يكن ليلها عادياً أبداً ..وحيدة الأبوين كانت و اليتيمة   والارملة أصبحت ،  اسما سيﻻزمها ، ووجعا تخشى أن تعيشه ابنتها ، وبعد جهد ، والكثير من المحاولات استطاعت أن تهدأ اوﻻدها وليكون مﻻك النوم في انتظارهم ،
جلست وحيدة في تجلس أمام باب غرفتها الفقيرة من الاثاث ، وكانها تحرس كليهما ، حرثت بنظرها محتويات البيت ، وهي تفكر  بمصير اوﻻدها ومستقبلهم ، فتدور بها الدنيا فتستسلم ﻻنها ﻻ تعرف ماذا تفعل ،  كانها ايقنت وسلمت لقرار القدر ، وبهدوء مهموم ومهزوم قالت:
رحمه الله لقد ذهب  
وتابعت ،
ثﻻثة أشهر ويزيد عشرة هي مدة العدة ،
تنهدت بحرقة وقالت :
يا الله .. ياااا الله كن معي ولا تتركني لغيرك يا الله

وبعد انقضاء مدة العدة والتي كانت عليها
قاسية ومؤلمة ، على الرغم من ان أهل زوجها لم يتركوها وحيدة حاولوا قدر المستطاع مساعدتها مالياً ومعنويا ، وتحملها لتلميحات زوجة عمهم بأن الحياة أصبحت صعبة وراتب زوجها لم يعد يكفي .. و .. و .. حتى باتت المساعدة المالية التي تحضرها شهريا كأنه موعد لتناول جرعة من السم مضافا إليه الكمية المناسبة من الذل المبطن ،  وكان يصدف أحيانا أن يكون الطفل محمد موجوداً .. فكان يسمع وبشكل غير مقصود ما كان يدور بينهم .. وعلى الرغم من صغر سنه لكن تفكيره كان أكبر من عمره ، فقرر أن يترك مقاعد الدراسة وليكون الشارع والرصيف هو الكتاب والمعلم ..
ولم تكن أم محمد تعلم ما يفعله طفلها ، كل الذين تعرفه انه وخلال فترة عدتها كانت تجهز له زوادة مما تيسر لها من حواضر البيت ، وكانت كلما سألته كان جوابه :
الحمد لله امي
وكلما أحضر ماﻻ واعطاه لوالدته يقول :
انه من فاعل خير يا أمي
وما كان من الام اﻻ أن تشكره في سرها وعﻻنية أمام طفلها وحتى أمام الجيران عندما يسالونها عن حالها واوضاعها  وتلعن في سرها تلك العيون الصيادة للفرائس كلما كانت تضطر للذهاب إلى  السوق لشراء بعض مستلزمات البيت ، أو للقيام بواجبات الجيرة ، والطفل لم يكتفي بالانصات ﻻمه بل كان يضيف ويقول :
نعم يا أمي ، أهل الخير ما زالوا موجودين ، والام بطيبتها ، وربما لحاجتها للمال وان كان ضئيﻻ ، فإنها في داخلها كانت على يقين انها سترتاح من معزوفة زوجة عمهم التي اهترات من تكراها ، وتكرار تناول مشروب الاهانة والذل، فتؤكد على حديث طفلها وتقول :
نعم ياصغيري ولا تنسى والدك ، اجعله بين عينيك ، إنه رحمه الله كان يتمنى أن تكون طبيباً ، لا تنسى ذلك بني ، إنه حلم والدك
نعم يا أمي لن أنسى
ومرت الأيام جامعة بعضها لتكون سنوات ، فكبر الصغير وأصبح رجﻻ ، تعب كثيرا ، وأصبح لديه اصدقاء ، ولم تكن قرأته لكتاب الشارع والرصيف سلبية ، فلم يعد يفكر في نفسه كل همه اهله ودراسة إخته أمل

وبعد فترة  علمت والدته انه من كان يحضر المال وأنه قد ترك دراسته ، وعلى الرغم من انزعاجها الشديد وتوبيخها له بشكل قاس اﻻ انه اقنعها بحديثه عن ظروفهم  الصعبة  ودراسة أخته وقسوة الحياة ومشروب الذل الشهري من قبل زوجة عمه ، فاقتنعت الأم مكرهة وعلى مضض ، على من محاوﻻتها باقناعه بالعدول عن تفكيره ، فكان كل همها أن يحقق حلم أبيه المرحوم ويتخرج طبيباً كما كانوا يخططون له ويحلمون لكنها فشلت

ﻻن تفكيره قد انصب على مساعدة أهله وتأمين حياة كريمة ، والتخلص من اسطوانة زوجة عمه ، والتي كانت كلما زارتهم مع عمهم للاطمئنان عليهم كانت تحضر معها قناع الحمل الوديع والمحب العاشقق لهم

وعلى الرغم من تفكيره من ناحية اهله اﻻ ان الشارع لم يكن منصفا له ، فذان مساء وعندما كان بالقرب من أحد المﻻهي الليلية ، وأثناء خروج بعض قاتلي الوقت بمالهم ، من أجل متعة زمنية ، قاموا بالسخرية منه ومن رفاقه ، فما كان منه في بادئ الأمر اﻻ أن يتحملهم قليﻻ من أجل رغيف الخبز .. وﻻن للصبر حدود  فلم يعد يتحمل اساءتهم وسخريتهم  ورغم محاوﻻت اصدقائه بأن يهدأ .. وأن يعود من حيث أتوا
لكنه رفض العودة ، فوقف في وجه من سخروا منه متحديا  وقال : انا ابن أم محمد .. انا ابن الأرملة الشريفة العفيفة .. وبدأ يصرخ ويردد انا ابن أم محمد اﻻرملة،   وبدأ صوته يعلو ويعلو وكأن قذيفة قد انفجرت لتوها وهو يهجم عليهم فامسك بواحد منهم وبدأ بضربة بشكل عشوائي فما كان من أصدقاءه عند سماعهم صفارات الشرطة اﻻ الإسراع بالهرب ، وعلى الرغم من تحذيرهم له لكنه لم يكن في عالمهم في لحظتها ، ﻻن غضبه كان هو السيد ، وهو صاحب القرار

وبعد حضور الشرطة تم فك الاشكال واعتقاله ومن ثم تم ايداعه السجن والتحقيق معه
وخﻻل التحقيق معه تم توجيه له تهمة الاعتداء عنوة من أجل السرقة ..

ولتعود الحياة ومن جديد لتفتح صفحات قسوتها ووجعها على أم محمد
ففي المحكمة وبعد توجيه الاتهام وبعد انتهاء محامي الخصم من مرافعته ، كان ﻻبد لمحامي أن يترافع عنه  ولكنه قد رفض أن يترافع عنه المحامي الذي عينته المحكمة لعدم قدرة الاهل من دفع تكاليف تسديد نفقاته المحامي
وبعد محاوﻻت ، وافق القاضي على طلب محمد بأن يكون هو محامي نفسه ، ولم تكن اﻻ لحظات حتى استجمع قواه وبدأ حديثه ، فانبهر بحديثه كل من كان داخل قاعة المحكمة ، وكأنه قد مارس مهنة المحاماة منذ عقود ،  وختم مرافعته بقوله والكل ينظر إليه وباندهاش :
نعم يا سيادة القاضي اني المتهم محمد ابن المرحوم أبو محمد رحمه الله .. ابن أم محمد الأرملة القدسية  التي تجلس  هناك ، ويشير باصبعه على مكانها ،
لقد تم اتهامي بتهمة الاعتداء المتعمد من أجل السرقة ، ومع كل اسف لم يتم استدعاء من كان حاضرا وهم اصدقائي في العمل ، كشهود ﻻن محامي الخصم أقنع المحكمة بعدم صدقية شهادتهم بسبب رابط الصداقة ،  وان أبناء الشوارع غير صادقين ، ﻻن لهم سجﻻت تسول إضافة إلى بعض الجنح والتي تمت ادانتهم بها 
وكأن ( اوﻻد الشوارع )كما يحب البعض أن يطلق عليهم ، ﻻن حقوقهم في الحياة قد أهدرت وأن طريق التوبة مغلقاً في وجوههم ،  وليس عليهم سوى القيام  بتنفيذ الواجبات فقط ..
نعم يا سيادة القاضي ، وﻻنني على يقين بأنني لست من المتسولين ، وكذلك هم اصدقائي أيضاً ،  ويشهد على ما أقول السماء ، وكل من في قلبه ذرة ضمير ، باننا نعمل ، ونكسب رزقنا بعرق جبيننا ،
إن المجني عليه كما اطلق عليه محاميه والقانون ، هو وامثاله مجموعة قتلة متسلسلين ، نعم ،  لقتلهم كرامة الإنسان ، فبعد خروجه مع جماعته وهم بحالة سكر شديد ، قاموا بالتلفظ بكلمات نابية ،  جرحت الكرامة ، فلم أتحمل ، خاصة بعد أن تجاوز بسخريته الخطوط الحمراء ، وأما عملنا بالشوارع وكما يحلوا للبعض أن يطلقوا علينا اوﻻد الشوارع ..
وهنا اسمح لي يا سيادة القاضي بالسؤال :  عندما كان تجار الطفولة يؤمنون لنا العمل باجور رخيصة جداً ، واستغلال البعض منا بأمور ظاهرة وآخر باطنية ، أين كان الميزان
يا سيادة القاضي بالنسبة لي لم اخطئ ، واقسم أني لم اخطئ ، كل ما قمت به  ، وفعلته كي احافظ على كرامة اهلي وكرامتي
وشكراً يا سيادة القاضي
اندهش الحضور مما قاله .. وعلى ما يبدو أن أمه وحدها قد فهمت ما قاله بين السطور ، عندما قالت في سرها : الحمد لله ، لقد تخرج من كلية الطب ، لقد تعلم من الشارع طب الإنسان واستطاع حسب فهمه بإيصال الدرس
وعلى الرغم من تاثير ما قاله محمد على الحضور وعلى القاضي في دفاعه عن نفسه اﻻ ان القاضي قد وقف حائراً  في نطق الحكم ، اﻻ أن تعابير وجهه ونظراته المستهجنة من المجني عليه ومحاميه  .. كانت قرار ، فنظر في وجه محمد وهو يبتسم ثم نظر إلى الميزان..

                                  بقلمي /نزار عمر

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نواعير الشّوق / روضة بوسليمي / تونس

نقطة بداية / سعيدة محمد صالح / تونس

غريبة / الكاتبة مريم محمد المهدي /المغرب